علاقة الكاتب بالقارئ
بذل المجهود في العمل الأدبي لا بد منه، لأنه يبدو جليا للقارئ ذي المراس والتجربة، وهو من الأمور التي تزكي وجود الكاتب بين نظرائه وتمنحه المصداقية في مجال الكتابة.
بالطبع هناك استثناءات، وقد زاد الطين بلة ظهور الأنترنت، فصار المرء يكتب في عجلة من أمره، وبالتالي حرم النص من العمق وكثافة الدلالة وهما من الميزات التي كانت للنص وما زالت عند الكثيرين من كتاب المجلة والجريدة الورقتين.و بسبب غياب المجهود استسهل البعض الكتابة بصفة عامة وفي مجال الشعر بصفة خاصة، فصار (الشاعر) مثلا بين نشر كل نص ونص ينشر نصا آخر، مما أدى إلى وفرة كمية هائلة جعلت الشعر ككل فاقدا لبريقه لدى القارئ الذي تفرقت به السبل وصار حائرا في تمييز الشعر من غيره.
وقد أدى هذا الواقع إلى تلغيم العلاقة بين الكاتب والقارئ بحيث بدأ الكاتب يرى أن القارئ صار لا يعبأ به ولا يعطيه الاهتمام الذي من المفروض أن يوليه إياه، بينما صار القارئ يرى في الكاتب شخصا يعيد نفسه بوعي منه أو حتى بدون وعي، وبالتالي صار لا يقول شيئا.و إذاً فالعلاقة هنا هي أصلا علاقة تقع بين قطبين هما قطبا التجاذب والتنافر مع غلبة هذا الأخير.
لكن رغم هذا الواقع المرير الذي يعيشه عالم الكتابة فالكاتب يبقى مطالبا بالتحلي بالمصداقية التي من بين شروطِ توفّرِها في الشخص أن يكون ثمة انسجام واتساق بين قناعته وما يطرحه في كتاباته، أما القارئ فلا يطمع أحد من الكتاب أن يكون متوافقا معه في طروحاته، ما دام هذا القارئ متعددا مَشْرَباً ومذهبا ورؤية.
إلا أن أغرب ما يثير الاهتمام هو الرأي الذاهب إلى أن الكاتب ينبغي أن يكون سيئا إلى حد ما في كتابته حتى يرضي كل الأذواق أو جلها وخاصة الناشئة منها، هذا الرأي وإن كان يطرح قضية بالغة الأهمية إلا أنه يشير من طرف خفي إلى محنة الكاتب الذي يريد أن يرضي جميع الأذواق، وهو غاية لا تدرك على أية حال، وبالنسبة لي فلا أدري لماذا يتجشم كاتب ما العناء في سبيل إرضاء الأذواق وهو يعلم في قرارة نفسه أنه لبلوغ ذلك قطع الأعناق والتخلي عن أمور منها عدم التعبير عما في نفسه بصدق وأمانة.
و حتى لا نبقى في العموميات ونضع الأشياء في محلها نضرب مثلا بالكاتب الماركسي الذي يتمسح بالليبرالية ويتملق أصحابها بإسداء المديح لها، على الأقل في بعض جوانبها، وبالكاتب الإسلامي، أقصد الكاتب الإسلاموي، الذي يلبس مسوح الاشتراكية ويتودد إلى أهلها وهو في رأيه يكتب من منطلق إسلامي.
إن جناية الكاتب على الكتابة تتمثل اساسا في هذه الحربائية المقيتة التي تلبس لكل حالة لبوسها، وكأن الكتابة تكون بدون موقف ولا انحياز، مع العلم أن الكتابة لكي تكون كتابة بحق لا بد لها من أن تعلن عن تضامنها التاريخي كما يرى بعض المفكرين الغربيين.
أعتقد أن الكاتب عليه أن يكتب ما يشعر به منطلقا من قناعته الشخصية، فبذلك وحده يحصل على راحة باله، وعلى الرضى على نفسه، والقارئ إن رآه هكذا سيحترمه حتى ولو اختلف معه، فكثير هم الذين يختلفون مع نيتشه وكامي وسارتر وشكسبير وجلال العظم وأدونيس وحسين مروة والقائمة تطول، ومع ذلك يقفون منهم موقف الاحترام والتقدير، لا لشيء إلا لأنهم كانوا أوفياء لقناعاتهم وعبروا عنها كما هي دون مساحيق أو رتوشات.
باختصار شديد: الكاتب الذي يحترم نفسه هو الذي يعكس ذاته في كتابته، والقارئ الحقيقي الحق يقدر ذلك منه ويضعه في خانة الاحترام والتقدير الواجبين له