وتبقى غزّة يتيمة
وتبقى غزّة يتيمة
الشيخ صفوت فريج
رئيس الحركة الإسلاميّة
كلُّ إعلانٍ لوقف إطلاق النار مبارك، لا سيّما وهو يحمل في طيّاته وقايةً من سفك دماء الأبرياء. في المقابل، فإنّ وقف إطلاق النار على الحدود الشماليّة يقطع الشكّ باليقين أنّ الحرب الّتي تدور الآن على غزّة هي حرب سياسيّة "محكميّة"، لا همّ لها إلّا الإطالة ولو على حساب دماء الأبرياء. لو كان غير ذلك، كيف نفسّر إيقاف حرب وإعلان هدنة في الشمال، بين طرفين لا أسرى بينهما، في الوقت الّذي تأبى فيه إسرائيل أن تصل إلى هدنة مع الفصائل الفلسطينيّة لاستعادة أسراها في غزّة؟ لو لم تكن الحرب سياسيّة متعلّقة بشخص واحد، أو بأسرة واحدة، كيف نفسّر إذن إنهاء حرب مع حزب الله الّذي ما زال يملك صواريخ لما بعد حيفا، واستمرارها على من بالكاد يطلقون قذيفة واحدة كلّ شهر؟ هي حرب نتنياهو إذن.
غزّة وتل أبيب وقرى ومدن الداخل أجمع، رهينة رغبات نتنياهو ومساعيه لإعاقة محكمته والإفلات من القضاء. فقط قبل أسبوع، تقدّم محاموه بطلب تأجيل مثوله أمام المحكمة، تحت ذريعة الحرب. فإن لم تكن حربًا، كانت محكمة.
لا شكّ أنّ عودة الأسرى والمختطفين إلى أهاليهم ترتبط ارتباطًا مباشرًا بتوقّف العدوان على غزّة وأهلها. لو أرادت إسرائيل، لأنهت هذه الحرب بعد أسبوع واحد من اندلاعها، لكنّ شهوة الدماء والانتقام منعتها آنذاك، وشهوة الحكم والمنصب والجاه والخوف من أن ينهي حياته كسجينٍ بتهم الفساد، تمنع نتنياهو الآن من إنهاء الحرب.
لكنّ القاعدة هي القاعدة، كانت وما زالت ولن تتغيّر.
ولنا في التاريخ عبرة ودروس، لن تنعم هذه البلاد بالسلام، طالما هناك شعوب تعاني القتل والتهجير والتشريد والتجويع والحصار. هذه قاعدة لا تنطبق على غزّة وحسب، بل على كلّ أرض وشعب، بغضّ النظر عن الدين والأفكار والمعتقدات. فرض السيطرة عنوة، قد يجلب لك غلبة مرحليّة. مرحليّة فقط. مزيدًا من القتل، يخلق بالضرورة مزيدًا من الأجيال الثائرة الناقمة. فالقذائف لن تقابلها ورود.
كان هناك مزارع يُنتِج محاصيل بجودة عالية لا مثيل لها، ويحصل بذلك على جائزة تقديريّة سنويّة كأفضل مَنْ يرعى ويُنتج ثمار المزروعات. حينما سُئل عن سرّ إنتاجه، وجدوا أنّه يتقاسم بذور المحاصيل الجيّدة مع جيرانه، فسأله صحفي: كيف تشارك أفضل بذور لديك مع جيرانك؟ ألا تخشى أن ينافسوك جودةً؟ أجاب المزارع: "يا سيّدي، ألا تعلم أنّ الريح تحمل حبوب اللقاح من الثمار الناضجة، وتنقلها من حقل إلى آخر؟ فإذا زرع جيراني ثمارًا رديئة، فإنّ التلقيح المتبادَل سوف يؤذي محاصيلي، وتنهار جودتها شيئًا فشيئًا. إذا أردت أن أحصل على ثمارٍ جيّدة، يجب أن أساعد جيراني في زراعة محاصيل جيّدة".
رسالتي للعقلاء من المجتمع اليهودي، احذروا ما تحمله لكم رياح غزّة. البحر هائج، ومقبض السفينة في إسرائيل اليوم بأيدٍ جاهلة، لا يمكن أن تقود البلاد إلى شاطئ الأمان. فقط سلام حقيقي بين الشعبين وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل هو الكفيل بأن تنعم شعوب المنطقة بالأمن والأمان والرخاء.
شهدنا هذا الأسبوع مساعي دول العالم، وهي تحجّ بين لبنان وإسرائيل بجهودٍ استثنائيّة، في حين واصلت قيادات عالميّة ليلها بنهارها، حتّى توقف الحرب في الشمال. أمّا غزّة، فقد بقيت يتيمة، لا وليَّ لها من دون الله ولا نصير. أثمان باهظة على مستوى الأرواح والممتلكات، أطفال وشيوخ ونساء، من لا يموت منهم قصفًا يموت خمصًا وجوعًا، دون أن يهتزّ طرف لدولة من الدول العظمى الّتي سعت قبل يومين لإيقاف الحرب في الشمال. هذا ما يحصل حين تغيب العدالة عن وجه الأرض، ولا يبقى "إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا". لك الله يا غزّة!
عمومًا فقد اعتدنا على هذا النفاق العالمي، فلم نعد نعوّل عليهم. لكنّنا على أعتاب مرحلة تدفعنا بكلِّ أسفٍ وأسى لأن نعتاد مشاهد النفاق والانفلات الأخلاقي المتنامي في جزيرة العرب، وهي مشاهد قاسية على كلّ من بقي في قلبه ذرّة من الدين. أقتبس هنا كلمة بكلمة ما قاله المفكّر السياسي الكويتي عبد الله النفيسي قبل أكثر من 23 عامًا: "أنا أتصوّر أنّ الأمريكان حريصون اليوم على شيئين في الخليج: تفكيك الحالة الإسلاميّة في الجزيرة العربيّة، تفكيكها تمامًا. والشيء الثاني، إعادة صياغة للمجتمعات الخليجيّة والجزيرة، لأنّ الأمريكان قادمون هنا ليمكثوا، ومكثهم هذا مقدّمة لمجيء الإسرائيليّين وغيرهم إلى المنطقة، وهذه الحالة الإسلاميّة هي المعيق الأساسي للأمريكان وغيرهم، ولذلك ثمّة استراتيجيّة أمريكيّة بضرورة تفكيك هذه الحالة الإسلاميّة، سواءً مُثّلَت بالحركة الدستوريّة أو السلف أو غيرها من التنظيمات الإسلاميّة، ولذلك أنا أرى أنّه في بحر السنوات القادمة سوف تضيق هذه الدائرة".
وقد ضاقت. ضاقت إلى حدٍّ لفظت فيه كثيرًا من الشخصيّات والقيادات والعلماء والمفكّرين عن ميادين الرجال إلى ميادين اللهو والفسق والمجون. ضاقت إلى حدٍّ بات فيه خذلان أطفال غزّة، أقلّ دهشة من أفعالهم بجوار شهداء بدرٍ وأُحد! على بُعدٍ قليلٍ من الروضة والحرمين، وعلى أنقاض قوافل المسلمين وتاريخ فجر الحضارة، تُنتَهك أقدس بقاع الأرض وأطهرها وأشرفها. أجساد عارية تعتلي مجسّمًا للكعبة المشرّفة تحت ما يسمّى موسم الرياض. أيها المسلمون في جزيرة العرب، ألا تخشون قول الله تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا"؟.