غزة تموت جوعًا.. متى يُعلن العالم رسميًا عن المجاعة؟
"إلي ثلاثة أيام ما أكلت، بدي رغيف خبز"- بهذه الكلمات المؤلمة التي نطق بها مُسن من غزة بصوت مكسور، ودموع تخلع وجعه في الهواء، يتجلى القهر الإنساني العاري في وجه حصار لا يرحم. هذه ليست شهادة فردية فحسب، بل مرآة لجوع جماعي ينهش مدينة بأكملها، بينما العالم يشاهد، يصمت، بل ويتواطأ.
وفي ذات الخلفية، تتعالى أصوات الأطفال من الشوارع والملاجئ وتحت الأنقاض، يصرخون: "بدنا نوكل"... كلمات بسيطة، لكنها تقطر ألمًا، وتحمل في بساطتها وزنًا أخلاقيًا لا يُحتمل، وتفضح الجريمة المستمرة التي تُرتكب باسم "الشرعية الدولية" وتحت شعار "الدفاع عن النفس".
في هذا السياق، لم تعد عبارة "غزة تموت جوعًا" مجرد وسم عابر على منصات التواصل الاجتماعي، رغم أهمية هذه الوسوم في إبقاء المأساة حاضرة في الوعي العام وكشف سياسة التجويع المستمرة. كما أن التغطيات الصحافية والتقارير الحقوقية، رغم ضرورتها، لا تكفي لفهم عمق الكارثة أو مساءلة مسبّبيها الحقيقيين. فهذه العبارة ليست مجازًا إعلاميًا، بل توصيف دقيق لواقع يعيشه أكثر من مليوني إنسان، بينهم مليون طفل يواجهون الجوع وسوء التغذية يوميًا، في ظل سياسة ممنهجة تستخدم الحصار كسلاح حرب لإخضاع المدنيين.
لكن المسؤولية لا تقع على إسرائيل وحدها، رغم كونها الفاعل المركزي. بل تتوزع أيضًا على أنظمة تغلق المعابر وتمنع تدفق المساعدات، وعلى مؤسسات إعلامية قلّلت من حجم المأساة إلى مجرد أرقام جافة، وعلى مجتمع دولي يدّعي القيم الإنسانية بينما يصمت أو يشارك بوعي في إدامة الحصار.
نعم، "غزة تموت جوعًا" ليست مجرد صرخة إنسانية، بل اختبار أخلاقي وديني وقيمي عالمي، يُحرض على الانحياز، ويعري زيف الحياد، ويضع الجميع أمام مرآة الحقيقة القاسية. إنها لحظة امتحان للضمائر، وقياس لمدى صدقية الشعارات الكبرى: العدالة، والكرامة، والإنسانية. كما تطرح أسئلة إيمانية جوهرية: أين الرحمة؟ أين نصرة المظلوم؟ وأين المسؤولية الأخلاقية أمام الله والتاريخ؟ ليست هذه لحظة عاطفية عابرة، بل محاسبة شاملة: من يُجوّع غزة؟ من يمنع عنها الحياة؟ ومن يصمت على الجريمة بينما مدينة بأكملها تتضور جوعًا؟
ورغم الخذلان العربي الرسمي، بدأت الساحة الغربية تشهد مؤخرًا بوادر تصدع في جدار الصمت الدولي، تجسدت بإدانات علنية لتصريحات إسرائيلية تبرر استخدام الجوع كسلاح، وفرض عقوبات محدودة على مستوطنين وكيانات إسرائيلية، إضافة إلى دعوات متزايدة لإدخال المساعدات الإنسانية دون قيود.
صحيح أن هذه التحركات لا تزال خجولة ومتأخرة، وربما تحركها اعتبارات مصلحية أكثر من دوافع أخلاقية، إلا أن مجرد حدوثها يشير إلى إمكانية فتح نافذة ضغط سياسي وقانوني على سياسة التجويع والإبادة. وإن كانت هذه الصحوة قد جاءت متأخرة، فإن مجيئها، رغم تواضعه، أفضل من استمرار الغياب التام. ومع ذلك، فإن غزة لا تملك رفاهية الانتظار، فالجوع لا ينتظر، والموت لا يمنح مهلة.
هذا ما برز بوضوح في تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حين قال: "من أجل استكمال النصر، هناك شرط واحد: ألا نصل إلى حالة المجاعة في غزة. لن يدعمونا إذا بلغنا هذا الحد". هذا التصريح، رغم فجاجته، يكشف بُعدين خطيرين:
أولًا، أن الدعم الغربي مشروط بعدم الاعتراف بوصول الوضع إلى مجاعة، لا بوقف المجازر أو تدمير المستشفيات أو قتل الصحفيين.
وثانيًا، أن إسرائيل تدير حربها ضمن حدود "حساسية الرأي العام" الغربي، حيث تُرسم حدود العنف ليس وفق القيم الإنسانية أو القانون الدولي، بل وفق ما لا يُحرج الحليف الغربي.
متى تصبح المجاعة مجاعة؟ ومن يملك سلطة إعلانها؟
هذا هو السؤال الجوهري في قلب الأزمة الإنسانية بغزة. لا جهة تقدم إجابة واضحة، ونتنياهو نفسه لا يُعرّف "المجاعة" ولا يُحدد من يملك حق إعلانها. لكنه يدرك جيدًا أن المجاعة ليست موتًا جسديًا فحسب، بل أداة استراتيجية ضمن منظومة الحصار تُستخدم لإخضاع المجتمع بأكمله.
لقد مات أطفال في غزة بسبب الجوع وسوء التغذية ونقص المياه النظيفة، كما وثقت منظمات طبية دولية. لكن هذا الواقع المؤلم لا يكفي في نظر الدعم الغربي ما دامت الأمم المتحدة لم تُعلن رسميًا عن "مجاعة". في هذه المعادلة القاسية، يصبح الموت غير كافٍ ما لم يُصنف رسميًا، وما لم تُمنح المعاناة ختمًا بيروقراطيًا يُحرّك ضمائر الغرب.
بالتالي، لا تُدار الحرب فقط ضد الفلسطينيين، بل أيضًا ضمن حدود التحمل الغربي للعنف، حيث يُسمح بقتل المدنيين طالما لم تُخترق خطوط دعاية معينة. وهذه ليست وحشية عسكرية فحسب، بل استخدام استعماري لمعايير الغرب نفسه في ضبط مستوى الجرائم المسموح بها.
تصريحات نتنياهو التي تشترط استمرار الدعم بعدم إعلان "المجاعة" تكشف هذه السياسة القمعية بوضوح: إذ يُسمح للتدمير الجماعي بالاستمرار طالما لم يُصنف رسميًا كمجاعة. كما يُسوّغ قتل عشرات الآلاف من المدنيين باعتبارهم "دروعًا بشرية"، مما يبرز الاستغلال المتعمد لمعايير الغرب في رسم حدود العنف المقبول.
وهنا يبرز السؤال المحوري: ماذا ينتظر الغرب؟ هل يحتاج إلى أدلة موثقة بالأرقام والأجساد والخرائط ليُحرّك ضميره؟ وهل أصبح موت الأطفال جوعًا مسألة تقنية مرتبطة بالتعريف والتصنيف، بدل أن تكون قضية إنسانية وأخلاقية؟
في ختام المشهد، يتضح أن الجوع في غزة ليس مجرد نتيجة عرضية للحرب، بل أداة ممنهجة في مشروع إبادة متكامل، يهدف إلى تفكيك المجتمع وتجريده من أبسط شروط الحياة والكرامة. ومن ثم، فإن فك الحصار لا يتطلب فقط تعاطفًا إنسانيًا، بل فعلًا سياسيًا شجاعًا يضغط على الحلفاء الغربيين للاعتراف بمسؤولياتهم وشراكتهم في هذه الجريمة.
عمليًا، تصريحات نتنياهو تثبت أن الرأي العام العالمي بات ورقة ضغط فعالة، وأن تحوّل الصمت الدولي إلى مساءلة قانونية وأخلاقية قد يكون بداية لكسر حلقة الإبادة المستمرة.
وأمام هذا كله، لمن لا يزال يرى في أهل غزة إخوة في الوطن والعروبة والدين، نستحضر بيتًا من قصيدة الشاعر عبد الغني التميمي "متى تغضب؟":
رأيتَ هناك أهوالًا... رأيتَ الدم شلّالًا
ولم تغضب... فأخبرني متى تغضب؟