تحميل...

من الجرح نصنع الحياة: كيف تشفي الكتابة الإبداعية والمسرح أرواحنا؟

منذ متى كانت الكلمات مجرد حروف؟

ومنذ متى كانت الخشبة المسرحية مجرد منصة تُضاء؟

هناك جراح لا تُرى بالعين المجرّدة، لكنها تنزف في صمت الروح، تتوارى خلف الضحكات، تندسّ في تفاصيلنا الصغيرة، وترافقنا حيث لا يرانا أحد. تلك الجراح لا تشفى بعقاقير الأطباء، ولا تهدأ بصمت المجتمع، بل تظل كامنة في الأعماق، حتى نجرؤ على مواجهتها... وحتى نجد لها شكلاً، صوتًا، مساحة.

الكتابة الإبداعية: حين تصير الكلمات مرآة للروح

الكتابة ليست رفاهية، ولا تمرينًا لغويًا، بل فعل نجاة.

حين نكتب، فإننا نُنزف على الورق، نخلع أقنعتنا، ونحكي لأنفسنا قبل أن نحكي للآخرين. الكتابة الإبداعية هي طقس التطهّر من الداخل، حيث نصوغ الألم في جمل، ونحوّل الخوف إلى استعارة، والحزن إلى صورة. هي وسيلتنا لنفهم، لنتذكر، لنغفر... لأنفسنا أولًا.

في زمن الضجيج، تمنحنا الكتابة لحظة صمت ثمين، نهمس فيها لأنفسنا بما لا نستطيع قوله علنًا. إنها الطريق نحو الترميم الذاتي، وممرٌ سريٌّ بين الألم والمعنى. من يكتب لا يهرب من واقعه، بل يواجهه بحبر نقيّ، ويُعيد تشكيله بوعي جديد.

المسرح: عندما تخرج الأرواح إلى الضوء

أما المسرح، فهو الفن الذي يجعلنا نرى ما كنا نخشى النظر إليه.

على خشبته لا نلعب أدوارًا، بل نفضح وجعًا، ونحتفل بالضعف، ونصرخ بما كتمناه طويلًا. إنه المكان الوحيد الذي نستطيع فيه أن نكون من نحن حقًا، بلا أقنعة، بلا حذر، بلا شروط. كل صرخة على المسرح هي ترياق، كل دمعة تُذرف أمام الجمهور هي إعلان شفاء جزئيّ.

المسرح ليس مجرد فن، بل فعل وجود. فيه نحمل رواياتنا إلى العلن، ونحولها إلى تجربة جماعية. هو مرآة للروح البشرية، بضعفها وقوتها، بعبثها وعمقها. في كل عرض، نمنح مشاهدينا جزءًا من قلوبنا، ونسترد شيئًا من ذاتنا المفقودة.

الفن كفعل مقاومة ومداواة

أنا لا أكتب هذه السطور من برج عاجي، بل من عُمق التجربة.

امرأة عاشت الألم، واختبرت الانكسار، ووجدت في الكلمة والخشبة خلاصًا. لم يكن ما كتبته في دفاتري حروفًا عابرة، بل شظايا حياة. ولم تكن مشاركتي المتواضعة على مسارح الحارات تمثيلًا، بل فعل شفاء، وشهادة حياة.

من هنا، أدعو كل من يحمل وجعًا، أن يكتب، أن يمثل، أن يرسم، أن يرقص، أن يصرخ. لا تنتظروا أن يتفهم العالم جراحكم، بل امنحوها صوتًا قبل أن تبتلعكم الصمت.

لأننا لسنا وحدنا

لعل أعظم ما تمنحنا إياه الكتابة والمسرح، هو هذا الشعور العميق بأننا لسنا وحدنا.

حين نكتب، ننسج خيطًا غير مرئي مع من يشبهنا، مع من عانى بصمت، مع من وجد في الفن ملجأ. وحين نشاهد عرضًا مسرحيًا صادقًا، نبكي لأننا نرى أنفسنا فيه، ونضحك لأننا نعرف ذواتنا بين السطور.

نعم، الألم حين يُشارك، ينقص.

وحين يُترجم إلى فن، يضيء.

وحين يصير نصًا أو مشهدًا، يتحول من عبء إلى قوة.

في زمن يُجبرنا على التماسك الزائف، فلنُخالفه بالفن.

لنقل للوجع: "أنا أراك"،

وللأمل: "أنا أكتبه بيدي".

...