تحميل...

الأطباء العرب بين التحريض السياسي والاستثمار الشعبي في التعليم

محمد دراوشة
نُشر: 19:34

في الأيام الأخيرة، أثارت تصريحات عضو الكنيست موشيه سعاده موجة من الغضب، بعد أن اتهم الأطباء العرب بالحصول على "تفضيل مصحح" وظروف قبول خاصة في كليات الطب. هذه التصريحات ليست الأولى من نوعها، بل تأتي ضمن سلسلة طويلة من الاتهامات العنصرية والتحريضية التي تُوجَّه ضد العرب الناجحين في الدولة، وكأن النجاح العربي يُعد تهديدًا يجب التشكيك فيه بدلًا من الاحتفاء به.

ما يغفله أصحاب هذه الخطابات هو أن النجاح العربي في إسرائيل لا يأتي من امتيازات، بل من تحديات مضاعفة. فالعرب في البلاد يواجهون تقييدات مؤسساتية رسمية وغير رسمية، تُبنى كجدران صامتة أمام محاولات التقدم. من محدودية المقاعد الجامعية، إلى غياب التمثيل الملائم في المؤسسات الأكاديمية، إلى التمييز في فرص العمل والترقي، كلها عوامل تجعل من كل إنجاز عربي قصة كفاح لا تُروى بما يكفي.

ورغم هذه العراقيل، يواصل الأهالي العرب الاستثمار في تعليم أبنائهم، خصوصًا في المهن الطبية، بشكل يفوق طاقتهم المادية. مئات آلاف الشواقل تُدفع من جيوب لا تملكها أصلًا، فيضطر الأهالي إلى الاستدانة، أو بيع ممتلكاتهم، أو التضحية بأحلامهم الشخصية، فقط ليمنحوا أبناءهم فرصة تعليمية قد تُغيّر مستقبلهم. هذا الاستثمار الشعبي ليس مجرد دعم عائلي، بل هو تعبير عن إيمان عميق بأن التعليم هو السبيل الوحيد لكسر الحواجز.

في هذا السياق، جاء موقف وزير الصحة أورئيل بوسو ليُعيد شيئًا من التوازن، حين قال بوضوح: "لا يوجد تفضيل مصحح للأطباء العرب، بل غبن مزمن". هذا التصريح الرسمي يُسلّط الضوء على الواقع الحقيقي، ويُفنّد مزاعم التحريض، ويُقر بأن الأطباء العرب يعملون بتفانٍ رغم كل العقبات، ويحققون نسب نجاح عالية في امتحانات وزارة الصحة، تصل إلى 98%.

لكن الاعتراف وحده لا يكفي. المطلوب هو سياسات فعلية تُنصف هذه العائلات، وتُوفّر فرصًا متساوية للطلاب العرب في دراسة الطب داخل البلاد، دون الحاجة إلى التضحية بمستقبلهم المالي. المطلوب هو تطبيق قانون التمثيل الملائم، ودعم إنشاء كليات طب في الجامعات العامة، بدلًا من تخصيصها للقطاع الخاص بأسعار لا يستطيع المواطن العربي تحمّلها.

وفي ظل هذا الحضور العربي المتزايد في الحيز العام الإسرائيلي، سواء في الطب أو الإعلام أو الأكاديميا، من الطبيعي أن يزداد رد فعل العنصريين كلما ازداد هذا الحضور قوةً ومهنيةً وعنفوانًا. فالعنصرية لا تُثار من الفراغ، بل من الخوف من فقدان الهيمنة، ومن رؤية الآخر ينجح رغم كل الحواجز. وكلما ارتفع صوت العرب، وبرز حضورهم، وحققوا إنجازاتهم، سيحاول البعض تقزيمهم، لا لأنهم ضعفاء، بل لأنهم باتوا مؤثرين.

في النهاية، من يُعالج أبناء هذا الوطن في غرف الطوارئ، وفي أقسام الجراحة، وفي العيادات الريفية والمراكز الصحية الحدودية، ليسوا أصحاب امتيازات ولا أبناء نخبة مدلّلة، بل هم أبناء شعبٍ كافح من أجل أن يرى أبناءه يرتدون المعاطف البيضاء. هؤلاء الأطباء العرب لم يصلوا إلى مواقعهم عبر محسوبيات أو تسهيلات، بل عبر رحلة شاقة من التضحية والكدّ، دفعوا خلالها أثمانًا باهظة من أعمارهم، ومن جيوب أهاليهم الذين آمنوا بأن التعليم هو السلاح الوحيد في وجه التهميش.

ومن يُشكّك في ذلك، فليتأمل في قصص آلاف العائلات التي جعلت من التعليم الطبي مشروع حياة، رغم كل العقبات، ورغم كل التحريض. عائلات باعت أراضيها، استدانت من البنوك، تخلّت عن رفاهيتها، فقط لتُرسل أبناءها إلى جامعات في أوروبا الشرقية أو الأردن أو رومانيا، حيث تكاليف الدراسة تفوق قدرة أي أسرة متوسطة. ومع ذلك، يعود هؤلاء الشباب بشهاداتهم، ويجتازون امتحانات، ويخدمون الجميع دون تمييز.

هؤلاء الأطباء لا يطلبون امتيازات، بل يطلبون فقط الاعتراف بجهودهم، وإنصافهم في التمثيل، وفي فرص التخصص، وفي مواقع اتخاذ القرار. لأنهم، ببساطة، لا يُمارسون الطب كوظيفة، بل كرسالة إنسانية نابعة من وجعٍ شخصي، ومن حلمٍ جماعي أن يكون للعرب مكانٌ في هذا الوطن، ليس فقط في غرف الانتظار، بل أيضًا خلف الطاولة، وفي غرفة العمليات، وفي صياغة السياسات الصحية.

...