تحميل...

لجنة المتابعة العليا: المشروع النبيل الذي لم يبلغ غاياته بعد

ساهر غزاوي 
نُشر: 23:34

تجري في هذه الأيام الاستعدادات لانتخاب رئيس جديد للجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل الفلسطيني، وذلك في موعد أقصاه الثاني والعشرون من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وفق ما أوردته وسائل الإعلام. ويأتي هذا الاستحقاق مع اقتراب انتهاء الدورة الثانية للرئيس الحالي، الأستاذ محمد بركة، الذي نُقدر له جهوده ومساعيه المتواصلة لتعزيز حضور اللجنة وتحسين أدائها في مرحلة شديدة الحساسية والدقة، رغم محدودية الموارد وشُح الإمكانيات.

غير أن هذه المحدودية ليست ظرفًا عابرًا، بل هي إخفاق مزمن لازم لجنة المتابعة منذ تأسيسها في مطلع الثمانينيات، إذ لم تنجح – بكل مركباتها وأعضائها وكوادرها – في بناء بنية مؤسسية مستدامة قادرة على تأمين الموارد وتسخير الطاقات لخدمة المجتمع العربي في الداخل وتحقيق الأهداف النبيلة التي قامت من أجلها.

تعود جذور لجنة المتابعة العليا إلى سلسلة من الهيئات الوطنية التي سبقتها ومهدت لتأسيسها، مثل اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية (1972)، ولجنة الدفاع عن الأراضي (1975)، والاتحاد القطري للطلاب الجامعيين العرب (1975). وقد جاءت إقامة اللجنة عام 1982 تتويجًا طبيعيًا لهذه المسيرة النضالية والتنظيمية، بهدف إيجاد إطار وطني جامع ينسق المواقف ويعبّر عن القضايا السياسية والوطنية والاجتماعية للجماهير الفلسطينية في الداخل. 

ومع ذلك، فإن اللجنة منذ بدايتها عانت من غياب بنية تنظيمية واضحة تحدد صلاحياتها وآليات عملها. فهي قائمة على مبدأ الإجماع بين مركباتها – من أحزاب وحركات سياسية داخل الكنيست وخارجه – وهو ما وفر لها نوعًا من التوازن والاستمرارية، لكنه في المقابل أضعف فاعليتها التنفيذية وأفقدها القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة. فكل قرار يحتاج إلى توافق كامل بين الأطراف، ما جعلها في كثير من الأحيان أسيرة الحسابات الحزبية والاعتبارات الفئوية، بدل أن تكون قيادة ميدانية تعبّر عن المصلحة الوطنية العليا. 

كما أن تداخل الصلاحيات بينها وبين اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية زاد من تعقيد المشهد، إذ غاب التمييز بين الدور السياسي الوطني الذي يُفترض أن تضطلع به لجنة المتابعة، والدور البلدي–الخدماتي الذي تمارسه اللجنة القطرية، ما جعل الحدود بين المؤسستين ضبابية وأحيانًا متنافسة.

ورغم محاولات الإصلاح السابقة، سواء عبر إقامة لجان فرعية متخصصة عام 2012 لمعالجة قضايا محددة (الأرض والمسكن، التعليم، الأسرى، الاقتصاد، الخدمة المدنية وغيرها)، أو عبر خطط ودراسات استراتيجية طُرحت لاحقًا لتفعيل دور اللجنة، فإن معظم هذه الجهود بقيت حبرًا على ورق. فلم تُفعل تلك اللجان عمليًا، ولم يُعرف لها نشاط ميداني أو أثر ملموس في المجتمع والإعلام، ما جعلها أقرب إلى عناوين تنظيمية بلا مضمون.

وإن كانت هناك عوامل خارجية مرتبطة بالسياسات الإسرائيلية العليا التي ترفض الاعتراف بأي كيان قومي أو هيئة تمثيلية جماعية للعرب الفلسطينيين في الداخل – ما يجعل لجنة المتابعة كيانًا استثنائيًا نشأ رغم السياسة الرسمية – فإن هناك عوامل داخلية أكثر تأثيرًا تتحمل مسؤوليتها بصورة مباشرة البُنى الحزبية والسياسية، ولا سيّما تلك المنخرطة في المسار البرلماني (الكنيست). فقد ساهم هذا المسار، على مرّ السنين، في إضعاف التنظيمات والحركات الميدانية والشعبية لصالح تعزيز مسار التمثيل البرلماني والمؤسساتي داخل الكنيست والسلطات المحلية، ما أدى تدريجيًا إلى تراجع استقلالية العمل السياسي الجماعي واتساع نطاق الاندماج في مؤسسات الدولة والجمعيات المدنية ذات الطابع غير المستقل. وجاء هذا التحوّل على حساب أشكال التنظيم الوطني والمجتمعي الذاتي التي شكلت في الماضي ركيزة الفعل السياسي الفلسطيني في الداخل، كما انعكس مباشرة في تهميش دور لجنة المتابعة العليا التي كانت – ولا تزال – تمثل الإطار الأوسع للفعل الوطني الجماعي وصوت الجماهير الفلسطينية في معاركها من أجل البقاء والكرامة والحقوق.

وعلى ضوء ذلك، تبرز اليوم حاجة مُلحة إلى وقفة مسؤولة وجريئة لمراجعة المسار وتقييم التجربة برمتها، بما يضمن أن تبقى لجنة المتابعة إطارًا وطنيًا فاعلًا يحمل مشروعًا جامعًا، لا مجرد عنوان رمزي لمشروع وطني نبيل لم يكتمل بعد. فإصلاح اللجنة لا يجب أن يُختزل في انتخاب رئيس جديد – توافقيًا كان أو حزبيًا أو مستقلًا – بل يستدعي مراجعة بنيوية شاملة تُعيد تحديد أهداف اللجنة ووظيفتها في المرحلة المقبلة، وتحررها من قيود الحزبية الضيقة، عبر بناء مؤسسات مهنية وتنظيمية واضحة تُعيد إليها مكانتها الطبيعية كقيادة وطنية تُمثل الفلسطينيين في الداخل، وتوحد صوتهم في مواجهة منظومة التمييز والقمع السياسي الوجودي المتصاعد. 

ويبدأ الإصلاح الحقيقي من تحرير اللجنة من سطوة الأحزاب ومنطق المحاصصة، عبر تحويلها إلى هيئة وطنية منتخبة مباشرة من الجماهير، تُدار بمهنية وشفافية وتُحاسَب أمام الناس لا أمام الأحزاب. كما يتطلب ذلك تفعيل اللجان التخصصية لتتحول من أجسام شكلية إلى أذرع ميدانية فاعلة قادرة على صياغة السياسات، وإطلاق المبادرات، وبناء الشراكات مع مؤسسات المجتمع المدني والهيئات الأكاديمية والحقوقية.

إن نجاح لجنة المتابعة في استعادة دورها التاريخي مرهون بقدرتها على تجسيد الوحدة الوطنية لا التباهي بها، وعلى تمثيل الناس لا التحدث باسمهم فقط. فحين تتحول اللجنة من منبر رمزي إلى مؤسسة وطنية حقيقية تمتلك رؤية ومصداقية، يمكنها أن تعود مرجعيةً جامعةً للجماهير العربية الفلسطينية في الداخل، وحصنًا متينًا في معركة البقاء والكرامة والهوية.

في نهاية المطاف، تبقى لجنة المتابعة العليا مرآة لواقعنا السياسي والاجتماعي، تعكس نقاط ضعفنا بقدر ما تعبّر عن طاقاتنا الكامنة. فالمسألة لم تعد في من يقود اللجنة، بل في كيف نعيد إليها روحها ودورها كمظلة وطنية تمثل الجماهير لا الأحزاب، وتدير الفعل لا تكتفي بردّ الفعل. إن إحياء المتابعة ليس مسألة شكلية، بل واجبًا وطنيًا يضمن استمرار الصوت الجمعي للفلسطينيين في الداخل في مواجهة سياسات الإقصاء والطمس، وتأكيد أننا – رغم كل التحديات – ما زلنا نملك القدرة على النهوض حين تتوحد الإرادة. 

...