تحميل...

لأن في هذا الشهر وُلد ملك السلام

رانية مرجية
نُشر: 17:02

في كل عام، حين يقترب ديسمبر من نهاياته المضيئة وبداياته التي لا تهرم، تتوقف البشرية لحظةً يتيمة لكن عميقة، كأنها تشعر بأن الكون نفسه يطوي صفحةً ويفتح أخرى. ليس هذا الشهر مجرد امتدادٍ زمنيٍ في تقويم العالم، بل هو ذاكرةٌ جمعية تعيد تشكيل روح الإنسان وتعيد صياغة مشاعره، وتذكّره بأن الحياة رغم قسوتها لا تزال تنبض بنوافذ نور لا تنطفئ.

 

في شهر الميلاد نعيش الحب.

ليس الحب بوصفه عاطفة آنية، بل باعتباره فعلًا يوميًا، قرارًا داخليًا بأن نرى الآخر بإنسانيته قبل اختلافه، وبجوهره قبل شكله، وبجرحه قبل صوته. الحب الذي يدعونا إلى أن نكون أكثر لينًا، وأقل قسوة؛ أن نتعامل مع العالم كما لو أننا نحمل في قلوبنا قدرةً هائلة على تضميد ما يكسره الواقع.

 

وفي هذا الشهر بالذات، يصبح الأمل مساحة داخلية نعود إليها لنستعيد توازننا. الأمل ليس وعدًا بغدٍ أفضل فحسب، بل هو مقاومة صامتة ضد انكساراتنا، وإصرارٌ على أن للحياة قدرة خارقة على النهوض بعد السقوط. هو ذلك الخيط الرفيع الذي نتشبث به حين تضيق الطرق، فنكتشف أن داخل كل إنسان بذرة ضوء تنتظر فرصة لتكبر.

 

أما الفرح، فهو الضيف الذي يأتي على استحياء، لكنه حين يدخل أرواحنا يغيّر ملامحها كلها. فرح الميلاد ليس صخب الأسواق ولا ألوان الزينة فقط، بل هو الفرح الهادئ النابع من لحظة امتنان: امتنان للحياة، للذين ظلوا قريبين رغم البُعد، وللحلم الذي لم يمت رغم العثرات.

 

لكن كل هذا—الحب، الأمل، والفرح—يستمد جذوره من حقيقة أزلية:

في هذا الشهر وُلد ملك السلام.

 

ميلاد ملك السلام ليس حدثًا دينيًا فقط، بل هو رسالة كونية تتجاوز الحدود واللغات والثقافات. رسالة تقول: إن الإنسانية قادرة على أن تعيد تعريف نفسها كل مرة؛ أن تتخلص من ظلامها الداخلي لتضيء للعالم طرقًا جديدة.

ميلاده دعوة إلى أن نكون أكثر إنصاتًا، أقل حكمًا؛ أكثر ميلًا للتحاور، أقل انجرافًا نحو الكراهية.

فالسلام الذي بشّر به، يبدأ من صوت داخلي صغير يقول: “أنا قادر على أن أكون نقطة نور، مهما كان العالم غارقًا في العتمة.”

 

في زمن تمزقه الحروب، وتُثقله النزاعات، وتُربكه الأزمات، يبدو الحديث عن السلام أشبه بالرفاهية. لكنه في الحقيقة ضرورة أخلاقية، واجب إنساني، و”وصية” تتجدد كل عام. فالبشرية لا تُشفى بالأسلحة، بل بالقلوب التي تعرف أن المصالحة تبدأ من نفسها، وبالعقول التي تؤمن بأن الخلاف ليس سببًا للهدم بل مساحة للنمو.

 

في شهر الميلاد، نضع على نوافذنا شجرةً مضاءة، لكن الشجرة الأعمق هي تلك التي نزرعها في داخلنا:

شجرة جذورها حب غير مشروط،

أغصانها أمل لا ينكسر،

وثمارها فرح يتقاسمه الجميع.

 

وهكذا، يمضي الشهر تاركًا لنا سؤالًا مهمًا:

هل نستطيع أن نكون شهودًا للنور؟

هل نستطيع، في عالمٍ يتغير بسرعة الضوء، أن نتمسك بما هو جوهري وبسيط: إنسانيتنا؟

 

ربما تكون الإجابة في هذا الشهر واضحة كالشمس:

نعم… لأن في ديسمبر وُلد ملك السلام،

ولأنه وُلد ليذكّرنا بأن النور أقوى من الظلام،

وبأن الحب رغم هشاشته، أقوى من كل شيء.

...