قراءة في كتاب "من عيون القلب والروح - شهادات وتجربة كاهن مهجّر من الجليل" للأب إبراهيم طنوس داود
قبل أشهر معدودة قدم لي المؤرخ الصديق الدكتور جوني منصور كتاب "من عيون القلب والروح – شهادات وتجربة كاهن مهجّر من الجليل"(1)، وهو عبارة عن سيرة ذاتية للأب المرحوم إبراهيم داود والذي صدر بعد سنوات من رحيله. كتب مقدمة الكتاب ودققه لغويا الأستاذ القدير حنا نور الحاج. وقد أثار الكتاب اهتمامي قبل قراءته لأني سبق وعرفت الأب إبراهيم عن قرب من خلال زياراتي المتكررة إلى قرية المكر في مطلع شبابي، وتوثقت علاقة الاحترام المتبادل بيننا حيث دعاني في العام 1995 للانضمام لعضوية هيئة تحرير مجلة "الكلمة" التي أشرف على إدارتها في حينه.
هوية الكتاب: حكاية انسان/ كاهن جليلي مهجّر
لو توقفنا أولا أمام غلاف الكتاب، ماذا نشاهد؟ ثبت على الغلاف الأول كخلفية صورة زنكوغرافية لرسالة من الرسائل التي تبادلها الكاهن ونشرت في ملحق الكتاب. وفي الوسط ظلال صورة نشرت كذلك في الكتاب تجمع الأب إبراهيم في بداية خدمته الكهنوتية مع أعضاء مجلس رعوي في احدى البلدات، وفي الزاوية اليمنى من الأسفل صورة كبيرة وواضحة لقدس الأب إبراهيم، وهي الصورة التي اعتمدها لنفسه في السنوات الأخيرة من حياته. أما الغلاف الأخير فقد انسحبت عليه الصورة الخلفية التي ذكرناها، وعليها في الجهة اليمنى عنوان الكتاب الوارد في الغلاف الأول مصغرا، وفي القسم الأيسر مقطع من المقدمة التي كتبها الأستاذ حنا الحاج، زميل الأب ابراهيم في المدرسة الثانوية مار الياس في عبلين.
واذا ربطنا بين غلاف الكتاب وتحديد نوع الكتاب نرى تطابقا بينهما. فالكاتب لا يرى في كتابه كتابا أدبيا انما " حكاية هذا الانسان الذي عاش معظم حياته مهجرا عن مسقط رأسه"، كما كتب في المقدمة(2). وذهب الأستاذ حنا أبعد من ذلك حين دعا القراء بعدم اشغال أنفسهم بنوع الكتاب، ورأى فيه رحلة في محطات وزوايا حياة الكاتب، أو "كتاب يتضمن نبضات الخوري إبراهيم طنوس داود، وجملة من الخلاصات والشهادات والتقييمات القيمة"(3).
وقبل أن نترك هذه المسألة ونتجاوزها كان لا بد وأن أسجل ملاحظتي حول العنوان الفرعي للكتاب "شهادات وتجربة كاهن مهجر من الجليل"، وتساءلت ومنذ أن بدأت في قراءة الكتاب، لماذا تم التركيز على كون المؤلف كاهنا دون سواها، خاصة وأنه قضى نصف حياته تقريبا علمانيا والنصف الآخر كاهنا؟ والكتاب خصص نصفه لمذكراته الكهنوتية والنصف الآخر لمذكراته كعلماني؟ لكن جاءت لوحة الغلاف لتحسم الجدل الذاتي وتعلن رغبة المؤلف أو القائمين على الكتاب، بابراز هذا الجانب الذي حمل تحديات وصراعات تختلف عما يتعرض له الانسان العادي، بل لا أنفي أني تفاعلت مع النصف الثاني من المذكرات أكثر من النصف الأول.
القسم الأول: هدم القرية وتهجير الأهالي وصراع البقاء مع عائلة جديدة
"ولد ابننا إبراهيم الساعة الثامنة صباح يوم الجمعة 25 شباط 1944" هكذا يبدأ الأب ابراهيم سرد مذكراته من خلال قصاصة ورق كتبها والده سجل فيها تاريخ ولادة ابنه إبراهيم، وينطلق الكاتب في التعريف بعائلته وقريته التي درج على ترابها وهي إقرث التي دمرت بعد أربع سنوات من ولادته وهجر أهلها إلى عدة قرى في المنطقة، وحرموا من العودة إليها رغم حصولهم على قرار من محكمة العدل العليا بذلك.
يحدثنا الكاتب عن تداعيات النكبة والتهجير وما لحق عائلته من فقر وقلة ومهانة، كالتي لاقاها سائر المهجرين والمنزوعين من بيوتهم وقراهم. ويسرد لنا المعاناة التي عاشها مع عائلته في التنقل من مكان لآخر والتحديات التي واجهته في الحياة، من تأمين لقمة العيش الى الرغبة في تحقيق الطموحات والأحلام وخاصة في مواصلة التعليم العالي. وفعلا يتمكن الأب إبراهيم من تحقيق معظم الطموحات وبعضها لم تسعفه الظروف على تحقيقها. ويتمكن الشاب إبراهيم من الدراسة في الجامعة العبرية في القدس والتخرج وإيجاد عمل يسد رمق عائلته، وفي هذه الأثناء يتزوج من شريكة حياته ويسكنان مع العائلة في ظروف صعبة، وتتعزز عائلته بولادة ثلاثة أولاد وبنت، فيتنقل مع عائلته من مكان إلى آخر إلى أن يستقر به المقام في قرية المكر الوادعة.
القسم الثاني: كاهن معارض لا يخشى المواجهة بوجه حق
بعدها يبدأ القسم الثاني مع رسامة ابراهيم داود كاهنا في المكر، والأعباء التي ألقيت عليه في خدمة ثلاث رعايا وهو أمر غير هين، يضاف اليه عمله كمستشار تربوي في الناصرة وبعدها في عبلين، والاشراف على تربية الأبناء وغيرها من هموم الحياة.
إن ما لفت نظري في هذا الفصل وقد قرأته بتمعن، خاصة أنه يتطرق إلى مواضيع وقضايا حساسة عشناها في تلك الفترة تناولتها الصحافة المحلية والألسن كثيرا، وفي مقدمتها الخلاف الذي وقع بين المطران المرحوم مكسيموس سلوم ومجموعة من الكهنة الكاثوليك، الذين وصل بهم الأمر حد مقاطعة رئيسهم المطران، وكان الأب إبراهيم أحد أولئك الكهنة بل من قادتهم.
وللأمانة فقد تماثلت مع الأب إبراهيم فيما كتبه عن الاتهامات الباطلة التي وجهت إلى الأب فوزي خوري، والتي جاءت لوضع حد لنشاطه السياسي في حينه أو ردعه عن اتخاذ مواقف سياسية مناصرة للقضية الفلسطينية. وكنت يومها قد تضامنت مع الأب فوزي ووجهت له رسالة بهذا الخصوص، وردّ عليها حيث تركت أطيب الأثر في نفسه، خاصة أن قليلين وقفوا معه في محنته تلك.
لا يمكن في عجالة كهذه الولوج في كل القضايا التي ذكرها وعرضها الأب إبراهيم في كتابه، لكن ما أودّ الوقوف عنده هو الجرأة في طرح تلك المواضيع علنا وبهذا الاسهاب والوضوح دون خشية من لوم لائم.
ولماذا أقول ذلك؟ لأننا تعودنا أن ننظر إلى الكاهن باحترام بل أحيانا بنظرة تقديس، وأذكر أنه عندما اختلف أبناء إحدى الرعايا مع كاهنهم وجدوا من يوجه اللوم اليهم بادعاء احترام "ثوب الكاهن"، أي لا يجوز إهانة الثوب ومن يرتديه. واذا وقع خلاف وكثيرا ما كان يقع بين أبناء الرعية والكاهن، لكن أن يقع خلاف بين رجال الدين أنفسهم، ويتخلله مقاطعات واساءات شخصية وتبادل اتهامات وألفاظ نابية فيما بينهم، هذا ما كان لعقل عادي تصوره. كيف يمكن لمن يقف يوم الأحد على مذبح الكنيسة ويعظ الناس بالتسامح والمحبة والمصالحة ومن يحمل القربان المقدس ويناوله للمؤمنين، في الوقت الذي يحمل فيه قلبه من الأحقاد ولا ترتجف يده، أو نعرف بأن قلوبهم سوداء مثل ملابسهم كما كان يردد بعض الناس؟!
من معرفتي بالأب إبراهيم أدركت مدى صدقه واستقامته وما سمعته عنه وعن أعماله وخدمته للكنيسة لا يقبل التأويل، ولهذا لا أشك في مصداقية ما ورد في كتابه، لكني ورغم ما سمعته سابقا، فوجئت حقا وأنا أقرأ بمدى الخلافات الداخلية التي كانت بمعظمها خافية التفاصيل عنا، وهذا الأمر لم يكن سهلا بالنسبة له فيقول: " ليس من السهل عليّ ككاهن أن أدخل في تفاصيل العلاقات الإكليريكية المؤلمة في الأبرشيّة"(4).
ويبقى كتاب الأب إبراهيم شهادة تاريخية، وان كانت ذاتية، تطلعنا على أحداث تاريخية هامة ووقائع مؤلمة، لكن من الضروري معرفتها لتساعدنا على تحديد رؤيتنا للأحداث التي مرّت، ولم نلق لها اهتماما كافيا في حينه.
إشارات:
1) صدر الكتاب في آذار 2025، وكان جاهزا للطباعة منذ العام 2016
2) من عيون القلب والروح - ص 11
3) م. س - ص 7
4) م. س - ص 217
