قانون التجنيد والعفو: الحبل السياسي المشدود حول رقبة نتنياهو بين مصالحه واستقرار الدولة
منذ السابع من أكتوبر، تحوّل قانون التجنيد إلى حبل سياسي مشدود يلتفّ حول رقبة نتنياهو، في واحدة من أعقد الأزمات التي واجهتها الحكومات الإسرائيلية في العقود الأخيرة، مع تفاقم النقص في القوى البشرية في الجيش وتصاعد الضغط الشعبي لإنهاء الإعفاءات من الخدمة العسكرية الممنوحة للحريديم. لم يعد القانون مجرّد بند تشريعي تقني، بل صار عنواناً لصراع عميق حول معنى المواطنة وتقاسم الأعباء في الشارع اليهودي، بين من يُطلَب منهم أن يدفعوا ثمن الأمن بدمهم، وبين فئات واسعة تحتمي بغطاء ديني وحزبي لتحافظ على نمط حياة منفصل عن منطق «الدولة المجندة». في قلب هذا المشهد يقف نتنياهو، محاولاً أن يتفادى لحظة يكون فيها مضطراً للاختيار العلني بين بقاء ائتلافه وبين الانصياع لمزاج عام آخذ في التشدد ضد استمرار الإعفاءات.
نتنياهو يدير هذا الحبل السياسي المشدود بأدوات المناورة التي أتقنها طوال سنوات حكمه؛ يتجنب قدر الإمكان الظهور في مقدّمة المشهد، ويترك لبوعاز بيسموت، رئيس لجنة الخارجية والأمن، مهمة بلورة الصياغة القانونية وقيادة النقاشات والتأجيلات في الكنيست، في محاولة لنقل مركز النار بعيداً عن مكتبه. حتى عندما خرج مؤخراً ليتحدث عن أن «القانون الجديد سيخفف عبء الاحتياط ويزيد تجنيد الحريديم»، فعل ذلك في خطاب محسوب، متجنباً الخوض في تفاصيل البنود التي تطالب بها الأحزاب الحريدية لضمان استمرار إعفاء أفرادها من التجنيد الفعلي. بهذا الأسلوب يحاول أن يظهر أمام جمهوره وكأنه يقود «ثورة تاريخية لدمج الحريديم في الجيش»، بينما تقرأ قوى عديدة في المعارضة، وحتّى داخل اليمين، في بنود القانون محاولة لشرعنة واقع الإعفاء أكثر مما هي محاولة لتغييره جذرياً.
الحبل السياسي المشدود حول رقبة نتنياهو يتكوّن من عدّة خيوط متعارضة في آن واحد. من جهة، الأحزاب الحريدية ترى في أي تغيير جوهري في الإعفاء تهديداً مباشراً لنمط حياتها ومؤسساتها التعليمية، وقد هدّدت مراراً بالانسحاب من الحكومة أو تعطيل الميزانية إذا شعرت بأن القانون يفتح الباب أمام تجنيد واسع النطاق للشبان المتدينين. هذه الأحزاب كانت في صلب أزماته الحكومية السابقة، وسبق أن تسبّبت الخلافات حول التجنيد في سقوط حكوماته أو تعثّر ائتلافاته، ما يجعل نتنياهو ينظر إليها كحبل أساسي من أحبال خنقه السياسي؛ شدّه أكثر من اللازم يعني انهيار الائتلاف، وتخفيفه أكثر من اللازم يعني انفجار غضب الشارع والمحكمة العليا والجيش.
من جهة أخرى، المزاج العام في إسرائيل واستطلاعات الرأي تُظهر أن أغلبية واسعة من غير الحريديم، بما في ذلك قطاع كبير من جمهور الليكود، تؤيد فرض عقوبات على رافضي التجنيد وسحب الامتيازات ممن يختارون الدراسة في اليشيفوت بلا خدمة عسكرية، ما يجعل تجاهل هذه الموجة ضرباً من الانتحار السياسي لأي زعيم يسعى إلى الفوز في انتخابات قادمة. هنا يشدّ الحبل من الاتجاه الآخر: كل تنازل يقدّمه نتنياهو للأحزاب الحريدية يُفسَّر كخضوع لمصالح البقاء الشخصي, ويحوّله في نظر كثيرين إلى عبء على الدولة بدل أن يكون ضمانة لاستقرارها.
يضاف إلى ذلك أن المحكمة العليا دخلت على خط الأزمة بقوة، فألزمت الحكومة بوضع سياسة إنفاذ فعّالة ضد التهرّب من التجنيد خلال فترة زمنية محددة، ملوّحة بإمكانية إسقاط أي قانون لا يوفّر إطاراً حقيقياً للتقليل من الفجوة بين الحريديم وباقي المجتمع اليهودي. هذا التدخل القضائي يحوّل الحبل السياسي حول عنق نتنياهو إلى حبل قانوني أيضاً، إذ لم يعد بوسعه الاكتفاء بسياسة التسويف؛ فكل تأجيل أو مناورة تشريعية يرفع من احتمالات صدام مباشر مع القضاء، ومع الاحتجاجات المدنية والعسكرية التي تتغذّى على خطاب «لا حصانة لرافضي التجنيد». بذلك يصبح قانون التجنيد ساحة يتداخل فيها الصراع بين السلطات، والصراع بين المكوّنات الاجتماعية، والصراع داخل معسكر اليمين نفسه.
في هذا الجو المشحون يحاول نتنياهو تقديم القانون المقترح على أنه «تسوية تاريخية» توازن بين المطالب المتناقضة، واعداً بأن يؤدّي إلى تجنيد آلاف من الحريديم خلال السنوات القادمة وتخفيف العبء عن كتائب الاحتياط، مع الحفاظ على إطار يسمح باستمرار الدراسة الدينية لمن يرغب ضمن شروط معيّنة. غير أن معارضي القانون يرون أن هذه الوعود مبالغ فيها، وأن الأرقام المستهدفة تظل متواضعة قياساً بحجم الإعفاء القائم، وأن جوهر النصّ التشريعي يهدف إلى إرضاء شركائه الحريديم وتحصين ائتلافه أكثر مما يهدف إلى إعادة صياغة العقد الاجتماعي على أساس المساواة في الخدمة. وهكذا يبقى الحبل السياسي المشدود حول رقبة نتنياهو محتفظاً بتوتّره؛ أي محاولة لتخفيف الضغط من جهة تزيده من جهة أخرى، لتظل حكومته معلّقة بين قلق انتخابات مبكرة، وضغط الشارع والقضاء، وابتزاز الشركاء الحريديم، في مشهد يجعل قانون التجنيد تجسيداً مكثّفاً لصراع الهوية والمصالح ومستقبل الحكم في إسرائيل.