تحميل...

حياة القرية

غزال أبو ريا
نُشر: 19:03

حياة القرية ليست مجرد ذكريات، بل هي روح كاملة ما زالت تنبض في القلب. كانت البساطة نمط حياة، وكان التعاضد الاجتماعي هو القانون غير المكتوب الذي يجمع الناس.

عندما كانوا يصبّون الباطون، كنت ترى العشرات يقفون جنباً إلى جنب؛ الكبير قبل الصغير، والجيران قبل الأقارب. وفي يوم “جبل الطين”، تسبق الأيادي النداء، فيهبّ الجميع وكأنهم أسرة واحدة.

وكان الجمل يجوب البطوف، علامة على تلك الأيام التي كانت فيها الأرض شريكة الإنسان في التعب والفرح. كنا نتقاسم صحن “ المجدرة” ورغيف الخبز، بيت واحد… فاللقمة كانت تعبّر عن المحبة أكثر مما تعبّر عن الشبع.

سقى الله أيام زمان…

أيامٌ كان فيها “الختيارية” حراس السلم الأهلي. لا يهدأ لهم بال إن اشتعل خلاف، ولا ينام أحدهم إلا بعد أن تُصلح ذات البين، وتعود القلوب إلى صفائها الأول.

ذكريات الأعياد… يوم تنتقل المحبة من بيت إلى بيت

وفي صباح العيد، كان للمشهد نكهة خاصة. يخرج الأب ومعه الأبناء، في جولة معايدة للجبران والأقارب.

بيوت مفتوحة… قلوب مفتوحة… وقهوة لا تبرد.

كان الأب يربّي أبناءه من خلال هذه الجولة:

أن احترام الناس واجب، وأن صلة الرحم ليست عادة بل واجب، وأن العيد لا يكتمل إلا بالزيارة والسؤال والمشاركة.

الديوان… مدرسة اجتماعية بلا جدران

وكان الديوان – أو “المضافة” – هو الجامعة الشعبية التي يتعلم فيها الناس الحكمة، وإدارة الخلاف، وكرم الضيافة، وأدب الحديث. فيه يجلس الكبير والصغير، يتشاركون الأخبار، ويسمع الصغار قصصاً تُبنى عليها مبادئ الحياة.

في الديوان تُولد المواقف الرجولية، وتُحل الخلافات، وتُزرع قيم الاحترام بين الناس.

تلك حياة القرية… بساطتها لم تكن فقراً، بل ثراءً بالنقاء.

وتعاونها لم يكن مجاملة، بل شراكة إنسانية حقيقية.

وزيارات العيد والديوان لم تكن طقوساً اجتماعية فحسب، بل كانت مدرسة للقيم التي تربّينا عليها.

ما زلنا، رغم تغيّر الزمن، نحنّ لتلك الأيام…

لأيام كان فيها الإنسان قيمة، والجيرة نعمة، والقلب صادق النية.

...